السيرة النبوية دروس وعبر : لمصطفى السباعي: 6- الشورى النبوية

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

 وإن من أبرز شعارات الحكم في الإسلام هو الشورى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وأبرز صفات الحاكم المسلم الخالد في التاريخ هو الذي يستشير ولا يستبد، ويتداول الرأي مع ذوي الاختصاص في كل موضوع يهمه أمره {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43 والأنبياء: 7].

14- وفي تقدمه الصفوف في كل معركة وخوضه غمارها معهم إلا فيما يشير به أصحابه، دليل على أن مكان القيادة لا يحتله إلا الشجاع المتثبت، وأن الجبناء خائري القوى لا يصلحون لرئاسة الشعوب، ولا لقيادة الجيوش، ولا لزعامة حركات الإصلاح ودعوات الخير، فشجاعة القائد والداعية بفعله وعمله يفيد في جنوده وأنصاره في إثارة حماسهم واندفاعهم ما لا يفيده ألف خطاب حماسي يلقونه على الجماهير. ومن عادة الجنود والأنصار أن يستمدوا قوتهم من قوة قائدهم ورائدهم، فإذا جبن في مواقف اللقاء، وضعف في مواطن الشدة، أضر بالقضية التي يحمل لواءها ضرراً بالغاً.

15- على الجنود وأنصار الدعوة ألاَّ يخالفوا القائد الحازم البصير في أمر يعزم عليه، فمثل هذا القائد وهو يحمل المسؤولية الكبرى، جدير بالثقة بعد أن يبادلوه الرأي، ويطلعوه على ما يرون، فإن عزم بعد ذلك على أمر، كان عليهم أن يطيعوه، كما حصل بالرسول يوم صلح الحديبية، فقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم شروط الصلح، وتبين أنها كانت في مصلحة الدعوة، وأن الصلح كان نصراً سياسياً له، وأن عدد المؤمنين بعد هذا الصلح ازداد في سنتين أضعاف من أسلم قبله، هذا مع أن الصحابة شق عليهم بعض هذه الشروط، حتى خرج بعضهم عن حدود الأدب اللائق به مع رسوله وقائده وقد حصل مثل ذلك بأبي بكر يوم بدأت حوادث الرِّدَّة، فقد كان رأي الصحابة جميعاً ألا يخرجوا لقتال المرتدين، وكان رأي أبي بكر الخروج، ولما عزم أمره على ذلك أطاعوه، فنشطوا للقتال، وتبين أن الذي عزم عليه أبو بكر من قتال المرتدين هو الذي ثبَّت الإسلام في جزيرة العرب، ومكَّن المؤمنين أن ينساحوا في أقطار الأرض فاتحين هادين مرشدين.

16- ومما طلبه الرسول صلى الله عليه وسلم من نُعيم بن مسعود، أن يخذِّل بين الأحزاب ما استطاع في “غزوة الأحزاب” دليل على أن الخديعة في حرب الأعداء مشروعة إذا كانت تؤدي إلى النصر، وأن كل طريق يؤدي إلى النصر وإلى الإقلال من سفك الدماء مقبول في نظر الإسلام، ما عدا الغدر والخيانة، وهذا من حكمته السياسية والعسكرية صلى الله عليه وسلم، وهو لا ينافي مبادئ الأخلاق الإسلامية، فإن المصلحة في الإقلال من عدد ضحايا الحروب مصلحة إنسانية.

والمصلحة في انهزام الشر والكفر والفتنة مصلحة إنسانية وأخلاقية، فاللجوء الى الخدعة في المعارك يلتقي مع الأخلاق الإنسانية التي ترى في الحروب شراً كبيراً، فإذا اقتضت الضرورة قيامها، كان من الواجب إنهاؤها عن أي طريق كان، لأن الضرورة تقدر بقدرها، والله لم يشرع القتال إلا لحماية دين أو أمة أو أرض، فالخدعة مع الأعداء بما يؤدي إلى هزيمتهم، تعجيل بانتصار الحق الذي يحاربه أولئك المبطلون. ولذلك أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم في “غزوة الأحزاب” قوله لعروة ابن مسعود: “الحرب خدعة” وهذا مبدأ مسلم به في جميع الشرائع والقوانين.

17- وفي قبوله صلى الله عليه وسلم إشارة سلمان بحفر الخندق، وهو أمر لم تكن تعرفه العرب من قبل، دليل على أن الإسلام لا يضيق ذرعاً بالاستفادة مما عند الأمم الأخرى من تجارب تفيد الأمة وتنفع المجتمع فلا شك أن حفر الخندق أفاد إفادة كبرى في دفع خطر الأحزاب عن المدينة، وقبول رسول الله هذه المشورة، دليل على مرونته صلى الله عليه وسلم، واستعداده لقبول ما يكون عند الأمم الأخرى من أمور حسنة، وقد فعل الرسول مثل ذلك أكثر من مرة، فلما أراد إنفاذ كتبه إلى الملوك والأمراء والرؤساء قيل له: إن من عادة الملوك ألاَّ يقبلوا كتاباً إلا إذا كان مختوماً باسم مرسله، فأمر على الفور بنقش خاتم له كتب عليه: محمد رسول الله، وصار يختم به كتبه، ولما جاءته الوفود من أنحاء العرب بعد فتح مكة تعلن إسلامها، قيل له: يا رسول الله إن من عادة الملوك والرؤساء أن يستقبلوا الوفود بثياب جميلة فخمة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترى له حلة، قيل: إن ثمنها بلغ أربعمائة درهم، وقيل: أربعمائة بعير، وغدا يستقبل بها الوفود، وهذا هو صنيع الرسول الذي أرسل بآخر الأديان وأبقاها إلى أبد الدهر، فان مما تحتمه مصلحة أتباعه في كل زمان وفي كل بيئة أن يأخذوا بأحسن ما عند الأمم الأخرى، مما يفيدهم، ولا يتعارض مع أحكام شريعتهم وقواعدها العامة، والامتناع عن ذلك جمود لا تقبله طبيعة الإسلام الذي يقول في دستوره الخالد: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17 و18] ولا طبيعة رسوله الذي رأينا أمثلة عما أخذ من الأمم الأخرى، وهو القائل: “الحكمة ضالة المؤمن يتلمسها أنَّى وجدها” ويوم غفل المسلمون في العصور الأخيرة، وخاصة بعد عصر النهضة الأوروبية عن هذا المبدأ العظيم في الإسلام، وقاوموا كل إصلاح مأخوذ عن غيرهم مما هم في أشد الحاجة إليه، أصيبوا بالانهيار، وتأخروا من حيث تقدم غيرهم {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41].

18- ومن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم للجيش الإسلامي في “غزوة مؤتة” تلمس طابع الرحمة الإنسانية في قتال الإسلام، فهو لا يقتل من لا يقاتل، ولا يخرب ما يجده في طريقه إلا لضرورة ماسة، وقد التزم أصحابه من بعده والمسلمون في مختلف العصور بعد ذلك هذه الوصايا، فكانت حروبهم أرحم حروب عرفها التاريخ، وكانوا هم محاربون أدمث أخلاقاً، وأشد رحمة من غيرهم وهم مسالمون، والتاريخ قد سجل للمسلمين صفحات بيضاء في هذا الشأن، كما سجل لغيرهم صفحات سوداء، ولا يزال يسجلها حتى اليوم، ومن منا لا يعرف الوحشية التي فتح بها الصليبيون بيت المقدس، والإنسانية الرحيمة التي عامل بها صلاح الدين الفرنجة حين استردها، ومن من لا يذكر وحشية الأمراء والجنود الصليبيين حين استولوا على بعض العواصم الإسلامية، كطرابلس، والمعرة وغيرهما، مع رحمة الأمراء والجنود المسلمين حين استردوا تلك البلاد من أيدي محتليها الغاصبين، ونحن اليوم نعيش في عصر النفاق الأوروبي في ادِّعاء الحضارة والرحمة الإنسانية وحب الخير للشعوب، وهم يخربون البلاد، ويسفكون دماء العُزَّل من الشيوخ والنساء والأطفال، ولقد عشنا – بكل أسف – عصر قيام إسرائيل على أرض فلسطين السليبة، وعلمت الدنيا فظائع اليهود الهمجية الوحشية في دير ياسين، وقبية، وحيفا، ويافا، وعكا، وصفد، وغيرها من المدن والقرى، ومع ذلك فهم يَدَّعون الإنسانية، ويعملون عكسها، ونحن نعمل للإنسانية، ولا نتشدق بها، ذلك أنّا شعب نحمل في نفوسنا حقاً أجمل المبادئ الأخلاقية في السلم والحرب، وننفذها براحة ضمير واطمئنان، بينما هم مجردون من هذه المبادئ في داخل نفوسهم، فلا يجدون إلا المناداة بها نفاقاً وتخديراً، نحن شعب نؤمن بالله القوي الرحيم، فلا تكون قوتنا إلا رحمة، وهم شعب يرون من النفاق أن ينكروا علينا وصف الله بالقوة والبطش، زاعمين أنهم ينعتونه بالحب والرحمة، فما كان لعلاقتهم مع الشعوب وحروبهم مع المسلمين ومع أعدائهم من أبناء ملتهم أثر لهذا الحب ولهذه الرحمة، نحن شعب ما كانت حروبنا إلا لخير الإنسانية، فكنا أبرَّ الناس بها، وهم قوم ما كانت حروبهم إلا للغزو والسلب والتسلط والاستعمار، فكانوا أعدى الناس لها.

ومع ذلك فنحن اليوم في حروبنا معهم إنما ندافع عن أرض وحق وكرامة، فلن يجدينا التغنِّي بمبادئنا مع قوم لا يفهمون مبادئ الرحمة والشرف والإنسانية، بل يجب علينا أن نستمر في كفاحنا لهم، متمسكين في معاركنا معهم بمبادئ رسولنا وشريعتنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم، وهو أحكم الحاكمين.

19- إن الجيش إذا كان غير متساوٍ في الحماس والإيمان والإخلاص، بل كان فيه المتخاذلون والمرتزقة والمتهاونون، لا يمكنه أن يضمن النصر على أعدائه، كما حصل في “غزوة حنين”، وكذلك شأن الدعوات لا يمكنها أن تعتمد على كثرة المصفقين لها، بل على عدد المؤمنين بها المضحين في سبيلها.

20- ودرس آخر نستفيده من سيرة الرسول في حروبه ومعاركه، هو موقفه من اليهود، وموقف اليهود منه ومن دعوته، فلقد حرص الرسول أول مقامه في المدينة أن يقيم بينه وبينهم علائق سلم، وأن يؤمِّنهم على دينهم وأموالهم، وكتب لهم بذلك كتاباً، ولكنهم قوم غدر، فما لبثوا غير قليل حتى تآمروا على قتله، مما كان سبباً في “غزوة بني النضير” ثم نقضوا عهده في أشد المواقف حرجاً “يوم الأحزاب” مما كان سبباً في “غزوة بني قريظة”، ثم تجمَّعوا من كل جانب يهيِّئون السلاح ويبيِّتون الدسائس، ويتجمَّعون ليقضوا في غدر وخسَّة على المدينة والمؤمنين فيها، مما كان سبباً في “غزوة خيبر”.

هؤلاء قوم لا تنفع معهم الحسنى، ولا يصدق لهم وعد، ولا يستقيم لهم عهد وكلما وجدوا غرة اهتبلوها، فهل كان على النبي من حرج فيما فعله بهم؟ وهل كان عليه أن يتحمل دسائسهم وخياناتهم ونقضهم للعهود فيعيشوا وأصحابه دائماً في جو من القلق والحذر وانتظار الفتنة والمؤامرات؟ لقد ضمن النبي صلى الله عليه وسلم بحزمه معهم حدود دولته الجديدة، وانتشار دعوته في الجزيرة العربية كلها، ثم من بعد ذلك إلى أرجاء العالم ولا يلوم النبيَّ على حزمه معهم إلا يهوديٌّ أو متعصب أو استعماري وها هي سيرة اليهود في التاريخ بعد ذلك، ألم تكن كلُّها مؤامراتٍ ودسائسَ وإفساداً وخيانةً؟ ثم ها هي سيرتهم في عصرنا الحديث هل هي غير ذلك؟ ولقد كان فينا قبل حرب فلسطين وقيام إسرائيل فيها من يخدع بمعسول كلامهم فيدعوا إلى التعاون معهم، وكان فينا من يساق إلى دعوة التعاون معهم من قبل أصدقائهم من الدول الكبرى، وكانت نتيجة ذلك التخاذل وفسولة الرأي في معالجة قضية فلسطين، أما بعد ذلك فلا يوجد من يغترُّ بهم، وليس لنا سبيل إلى التخلص من شرهم إلا حزم كحزم الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملتهم لنطمئن على بلادنا ولنتفرغ لدورنا الجديد المقبل في حمل رسالة الإسلام والسلام إلى شعوب الأرض قاطبة.

تلك أمانة نؤديها بصدق وإيمان إلى الجيل الجديد عساه يستطيع أن يفعل ما لم يستطع فعله جيلنا المتخاذل.

21- وفي غزوة مؤتة كان أول لقاء بين المسلمين والروم، ولولا أن العرب الغساسنة قتلوا رسولَ رسولِ الله إلى أمير بصرى، لكان من الممكن أن لا يقع الصدام، ولكن قتل رسوله إلى أمير بصرى يعتبر عملاً عدائياً في جميع الشرائع، ويدل على عدم حسن الجوار، وعلى تثبيت الشر من هؤلاء عمال الروم وصنائعهم، ولذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إرسال جيش مؤتة ليكون فيه إنذار لهم ولسادتهم الروم بقوة الدولة الجديدة واستعدادها للدفاع عن نفسها حتى لا يفكروا بالعدوان عليها، ولما وصل المسلمون إلى مؤتة وجدوا جموعاً من الروم ومن العرب المتنصرِّة الخاضعة لحكمهم قدَّرها المؤرخون بمائتي ألف، وكان أخو هرقل قد قاد الجيش وعسكر في “مآب” قرب عمّان اليوم، مما يؤكد ما توقعه الرسول منهم في تصميمهم على مناجزة الدولة الجديدة والقضاء عليها توجُّساً من قيام دولة عربية مستقلة داخل الجزيرة العربية تكون نذيراً بانتهاء استعمارهم لبلادهم واستعبادهم لعربها القاطنين على حدودها مما يلي الحجاز، وهكذا بدأت المعارك بين المسلمين والروم.

22- وفي غزوة تبوك أو العسرة آيات بينات على ما يفعله الإيمان الصادق في نفوس المؤمنين من إثارة عزائمهم للقتال واندفاع أيديهم في بذل المال ومن استعذابهم الحر والعناء والتعب الشديد في سبيل الله ومرضاته، ولذلك لما تخلَّف ثلاثة من المؤمنين الصادقين في إيمانهم عن هذه الغزوة من غير عذر، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمقاطعتهم، فامتنع أزواجهم وآباؤهم عن مكالمتهم فضلاً عن جمهور المسلمين، مما اضطر بعضهم إلى ربط نفسه بعمد المسجد، وآخر إلى احتباس نفسه في البيت، حتى تاب الله عليهم بعد أن أخذ المسلمون درساً بليغاً فيمن يتخلف عن أداء الواجب لغير عذر، إلا أن يؤثر الراحة على التعب، والظل الظليل على حر الشمس وشدتها.

23- أما فتح مكة، ففيها من الدروس والعظات ما تضيق عن شرحه هذه الصفحات القلائل، ففيها نجد طبيعة الرسول صلى الله عليه وسلم الداعية الذي لا يجد الحقد على مقاوميه إلى نفسه سبيلاً، فقد منّ عليهم بعد كفاح استمر بينه وبينهم إحدى وعشرين سنة لم يتركوا فيها طريقاً للقضاء عليه وعلى أتباعه وعلى دعوته إلا سلكوها، فلما تم له النصر عليهم، وفتح عاصمة وثنيتهم، لم يزد على أن استغفر لهم، وأطلق لهم حريتهم، وما يفعل مثل هذا ولا فعله في التاريخ، ولكنما يفعله رسول كريم لم يرد بدعوته ملكاً ولا سيطرة، وإنما أراد له الله أن يكون هادياً وفاتحاً للقلوب والعقول، ولهذا دخل مكة خاشعاً شاكراً لله، لا يزهو كما يفعل عظماء الفاتحين.

24- وفيما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة حكمة أخرى، فقد علم الله أن العرب سيكونون حملة رسالته إلى العالم، فأبقى على حياة أهل مكة وهم زعماء العرب ليدخلوا في دين الله، ولينطلقوا بعد ذلك إلى حمل رسالة الهدى والنور إلى الشعوب، يبذلون من أرواحهم وراحتهم ونفوسهم ما أنقذ تلك الشعوب من عمايتها، وأخرجها من الظلمات إلى النور.

25- وآخر ما نذكره من دروسها ودروس معاركه الحربية صلى الله عليه وسلم، هي العبرة البالغة بما انتهت إليه دعوة الله من نصر في أمد لا يتصوره العقل، وهذا من أكبر الأدلة على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أن الإسلام دعوة الله التي تكفل بنصرها ونصر دعاتها والمؤمنين بها والحاملين للوائها، وما كان الله أن يتخلى عن دعوته وهي حق ورحمة ونور، والله هو الحق وهو الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، والله نور السماوات والأرض، فمن يستطيع أن يطفئ نور الله!. وكيف يرضى للباطل أن ينتصر النصر الأخير على الحق، وللهمجية والقسوة والفساد أن تكون لها الغلبة النهائية على الرحمة والصلاح.

ولقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين جراح في معركتي أحد وحنين، ولا بد في الدعوة من ابتلاءٍ وجراح وضحايا {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].

 الفصل السادس

أهم الأحداث التي وقعت بعد فتح مكة

إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

 غزوة حنين:

بعد أن فتح الله مكة على رسوله والمسلمين فانهارت بذلك مقاومة قريش التي استمرت إحدى وعشرين سنة منذ بدء الرسالة، تجمعت هوازن لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت معركة حنين التي تجد تفاصيلها في سيرة ابن هشام.

ونذكر من دروس هذه المعركة ما يلي:

1- ما كان من غرور مالك بن عوف وعدم استماعه لنصيحة دريد ابن الصمة حرصاً منه على الرئاسة، واغتراراً منه بصواب فكره، وتكبُّراً عن أن يقول قومه – وهو الشاب القوي المطاع -: قد استمع إلى نصيحة شيخ كبير لم يبق فيه رمق من قوة، ولو أنه أطاع نصيحة دريد لجنَّب قومه الخسارة الكبيرة في أموالهم، والعار الشنيع في سبي نسائهم، ولكنه الغرور وكبرياء الزعامة يوردان موارد الهلكة ويجعلان عاقبة أمرها خسراً، فقد أبى له غروره أن يستسلم لقوة الإسلام التي ذلت لها كبرياء قريش بعد طول كفاح وشديد بلاءٍ، وظن أنه بما معه من رجال وما عنده من أموال، يستطيع أن يتغلب على قوة الإسلام الجديدة في روحها، وفي أهدافها، وفي تنظيمها عليه وعلى قومه، ثم أبى له غروره إلا أن يخرج معه نساء قومه وأموالهم ليحول ذلك دون هزيمتهم، وعدا نصيحة دريد الذي قال له: إن المنهزم لا يرده شيء، فإنه غفل عن أن المسلمين الذين سيحاربهم لا يستندون في رجاء النصر على مال ولا عدد ولا عدة، وإنما يستندون إلى قوة الله العزيز الجبار، ووعده لهم بالنصر والجنة، ولا يمتنعون عن الهزيمة رغبة في الاحتفاظ بنسائهم وأموالهم، بل رغبة في ثواب الله وخوفاً من عقابه الذي توعد المنهزمين في ميادين الجهاد بأليم العذاب وشديد الانتقام {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16].

وهكذا حلت الهزيمة بمالك وقبيلته هوازن ومن معه، ولم يقتصر شؤم غروره وكبريائه عليه وحده، بل أصاب قومه جميعاً، لأنهم أطاعوه في هذا الغرور، ولما أنذرهم بأنهم إن لم يستجيبوا له، بقر بطنه بالسيف، سارعوا إلى طاعته، ولو أنهم اتبعوا نصيحة شيخهم المجرب، وكفكفوا من كبرياء زعيمهم الشاب، لما أصابهم ما أصابهم، لقد خافوا من غضب هذا الزعيم المغرور عليهم، ولو أنهم سألوا أنفسهم: ماذا يكون لو أغضبناه؟ لكان الجواب: انهم يفقدون زعيمهم! وماذا في هذا؟ ماذا في ذهاب زعيم مغرور أنانيٍّ يريد أن يستأثر بشرف المعركة دون من هم أقدم وأخبر منه بالمعارك وشؤونها؟ وهل توازي حياة شخص حياة قبيلة أو أمة من الناس بأكملها؟ لقد حذَّرنا الله في القرآن من نتيجة هذا الاستسلام الجماعي لأهواء المغرورين من الكبراء والزعماء، يقول الله تعالى في قصة موسى مع فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا (أغضبونا بإعراضهم عن الحق واتباعهم لطاغيتهم المغرور) انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً (قدوة للعقاب) وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 54 – 56].

2- ما كان من استعارة الرسول صلى الله عليه وسلم من صفوان وهو مشرك مائة درع مع ما يكفيها من السلاح، ففيه عدا وجوب الاستعداد الكامل لقتال الأعداء، جواز شراء السلاح من الكافر، أو استعارته على أن لا يؤدي ذلك إلى قوة الكافر واستعلائه، واتخاذه من ذلك وسيلة لأذى المسلمين وإيقاع الضرر بهم، فقد استعار الرسول من صفوان السلاح بعد فتح مكة، وكان صفوان من الضعف والهوان بحيث لا يقوى على فرض الشروط على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدل على ذلك قوله للرسول حين طلب منه ذلك: أغَصباً يا محمد؟ فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: بل عاريةً مضمونةً حتى نُؤديها إليك.

وفي هذا أيضاً مثلٌ من أمثلة النبل في معاملة المسلمين لأعدائهم المنهزمين، فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يأخذها منه غصباً لاستطاع، ولما قدر صفوان أن يقول شيئاً، ولكنه هدي النبوة في النصر ومعاملة المغلوبين، والعف عن أموالهم بعد أن تنتهي المعركة ويلقوا السلاح، وما علمنا أن أحداً فعل هذا قبل محمدٍ صلى الله عليه وسلم ولا بعده، وفيما شهدناه من معاملة الجيوش المنتصرة للمغلوبين والتسلط على أموالهم وكراماتهم وحقوقهم أكبر تأييد لما قلناه {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].

3- حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال في هذه المعركة، كان معه اثنا عشر ألفاً: عشرة آلاف ممن خرجوا معه من المدينة فشهدوا فتح مكة، وهم المهاجرون والأنصار، والقبائل التي كانت تجاور المدينة، أو في طريق المدينة، وألفان ممن أسلموا بعد الفتح، وكان أكثر هؤلاء ممن لم تتمكن هداية الإسلام في قلوبهم بعد، وممن دخلوا في الإسلام بعد أن انهارت كل آمالهم في مقاومته وإمكان التغلب عليه، ففي هذا الجيش كان المؤمنون الصادقون الذين باعوا الله أرواحهم وأنفسهم في سبيل إعزاز دينه، وفيه كان الضعاف في دينهم، والموتورون الذين أسلموا على مضضٍ وهم ينطوون على الحقد على الإسلام والتألم من انتصاره، فلم يكن الجيش كله في مستوى واحد من قوة الروح المعنوية، والإيمان بالأهداف التي يحارب من أجلها، وفيه الراغبون في غنائم النصر ومكاسبه، ولذلك كانت الهزيمة أول الأمر شيئاً غير مستغرب، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى كثرة من معه: لن نغلب اليوم من قلة[1] أي: إن مثل هذا الجيش في كثرة عدده لا يغلب إلا من أمور معنوية تتعلق بنفوس أفراده، تتعلق بإيمانهم وقوة أرواحهم واخلاصهم وتضحياتهم، وقد وضع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قاعدة جليلة، وهي أن النصر لا يكون بكثرة العدد، ولا بجودة السلاح، وإنما يكون بشيء معنوي يغمر نفوس المحاربين، ويدفعهم إلى التضحية والفداء، وقد أكد القرآن الكريم على هذا في غير موضع، فقال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249].

وفي الآيات التي نزلت بعد انتهاء المعركة ما يشير بصراحة إلى هذا المعنى: ويوم حنينٍ إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغنِ عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين} [التوبة: 25-26].

4- وفي قول بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في طريقهم إلى المعركة: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، وفي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم: قلتم – والذي نفس محمد بيده – كما قال قوم موسى لموسى: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138] إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم.

في هذا إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما ستسلكه هذه الأمة من تقليد الأمم السابقة لها، وفيه تحذير من ذلك، وأنها لا تسلكه إلا من غلبة الجهالة عليها، فالأمم التي تعرف وجوه الخير والفساد، وطريق الضرر والنفع، تأخذ الخير وتتمسك به، وتعرض عن الفساد وتفر منه، وتأبى أن تسلك أيَّ طريق يضر بها ولو سلكته الأمم وسارت فيه، فإذا سارت في طريق التقليد غير عابئة بنتائجه، كانت قد وضعت الشيء في غير موضعه، وهذا هو الجهل الذي قال الله عنه: {إنكم قوم تجهلون}، والأمة الواثقة بنفسها، المعتزة بشخصيتها، المطمئنة إلى ما عندها من حق وخير تأبى أن تسير وراء غيرها فيما يؤذيها وينافي مبادئها، فإذا قلدت، كانت ضعيفة الشخصية، مضطربة التفكير، مستسلمة للأهواء، متردية في الضعف والانحلال، وتلك هي الجاهلية التي أنقذنا الله منها برسوله وكتابه وشريعته، ليس العلم والجهل في نظر دعوات الإصلاح هما القراءة والأمية، وإنما هما الهدى والضلال، والوعي والغباوة، فالأمة الواعية لما يفيدها وما يضرها، هي الأمة العالمة ولو كانت أمية، والأمة التي لا تهتدي إلى الخير سبيلاً منهجاً، هي الأمة الجاهلة ولو كانت تعرف شتى العلوم، وتحيط بمختلف الثقافات.

إن الذي هوى ويهوي بالأمم – أي أمة كانت – إنما هو استيلاء الجاهلية على عواطف أبنائها وأهوائهم، واسألوا التاريخ: هل انهارت حضارة اليونان والرومان إلا بسيطرة الجاهلية عليها.

إن المقلدين جهال مهما تعلموا، أطفال مهما كبروا، وسيظلون أولاداً جهالاً حتى يتحرروا.

5- في هذه المعركة بعد أن انهزم المسلمون أول الأمر، وتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظن شيبة بن عثمان أنه سيدرك ثأره من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبوه قد قتل في معركة أحد، قال شيبة: فلما اقتربت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقتله أقبل شيء تغشى فؤادي، فلم أطق ذلك، وعلمت أنه ممنوع مني.

ولقد تكررت في السيرة مثل هذه الحادثة، تكررت مع أبي جهل، ومع غيره في مكة، وفي المدينة، وكلها تتفق على أن الله قد أحاط رسوله بجو من الرهبة أفزع الذين كانوا يتآمرون على قتله، وهذا دليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة، وعلى أن الله قضى بحفظ نبيه من كل كيد، وببقائه حياً، حتى يبلغ الرسالة، ويؤدي الأمانة، وينقذ جزيرة العرب من جاهليتها، ويقذف بأبنائها في وجه الدنيا، يعلمون، ويهذِّبون، وينقذون، ولولا حماية الله لرسوله، لقضى المشركون على حياته منذ أوائل الدعوة، ولما كمل الدين، وتمت النعمة، ووصل إلينا نور الرسالة وهدايتها ورحمتها، ولما تحول مجرى التاريخ تحوله الذي خلص الإنسانية من عمايتها وشقائها بانتشار الإسلام، وانتهاء عهود التحكم بالشعوب، والاستبداد بتصريف شؤونها، من ملوك ورؤساء أقاموا سلطانهم على البغي والظلم، ومنع الشعوب من أن تشعر بكرامتها، أو تثأر لظلامتها، ولقد تم كل هذا بفضل حماية الله لرسوله، حتى أدى الأمانة كاملة غير منقوصة.

لا جرم أن فضل الله كان على رسوله عظيماً {وكان فضل الله عليك عظيماً} [النساء:113]. وأن فضل رسوله على البشرية كان عظيماً، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].

ولا جرم في أن نجاة دعاة الحق من  كيد أعدائه ومن تربصهم بهم، هو استمرار لذلك الفضل العظيم الذي ابتدأ بحماية رسوله.

وأن على الدعاة أن يلجؤوا دائماً – بعد الاحتراس والحذر – إلى كنف الله، ويحتموا بعزته وسلطانه، ويثقوا بأن الله معهم نصير، ولهم حفيظ، وأن من أراد الله له النجاة من كيد أعداء الهداية سينجو مهما يكن سلطانهم شديد الوطأة، عظيم الكيد والتآمر والإجرام، فالحماية حماية الله، والنصر نصره، والخذلان خذلانه، والنافذ قضاؤه وأمره، {إن ينصركم الله فلا غالب لكم} [آل عمران: 160] ومهما يعظم كيد الانسان الظالم، فان نصر الله العادل أعز وأعظم، فلا يجبن داعية ولا يخف مصلح، ولا يتأخر عن تأدية الحق مؤمن بالله، واثق بعونه وتأييده {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20-21] ولا ينافي هذا نجاح أعداء الله في الوصول إلى بعض أئمة الهدى من دعاة الإصلاح، وتمكنهم من القضاء عليهم، أو إيقاع الأذى بهم، فان الموت حق، وهو نصيب ابن آدم لا محالة، فمن يكتب عليه الموت بأيدي الظالمين، فإنما هي كرامة أكرمه الله بها، وفضل أنعم به عليه، وكل موت في سبيل الله شهادة، وكل أذى في دعوة الحق شرف، وكل بلاء بسبب الإصلاح خلود {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح، إن الله لا يضيع أجر المحسنين} [التوبة: 120].

6- فوجئ المسلمون أول المعركة بكمين أعدائهم لهم، مما أدى إلى وقوع الخلل في صفوف المسلمين واضطرابهم وتفرُّقهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت معه إلا القليل، ثم أخذ رسول الله ينادي: أيها الناس! هلموا إليّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، فلم يسمع الناس صوته، فطلب من العباس – وكان جهوري الصوت – أن ينادي في الناس: يا معشر الأنصار، يا معشر أصحاب السمرة! فأجابوا: لبيك لبيك، فيذهب الرجل ليثني بعيره، فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله، ثم يؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا ثم كان النصرُ.

في هذا الموقف عدة من العبر والدروس يجدر بدعاة الحق وجنوده أن يقفوا عندها طويلا، فإن انهزام الدعوة في معركة قد يكون ناشئاً من وهن في عقيدة بعض أبنائها، وعدم إخلاصهم للحق، وعدم استعدادهم للتفاني في سبيله، كما أن ثبات قائد الدعوة في الأزمات، وجرأته، وثقته بالله ونصره، له أثر كبير في تحويل الهزيمة إلى نصر، وفي تقوية قلوب الضعاف والمترددين ممن معه، وللثابتين الصادقين من جنود الحق والتفافهم حول قائدهم الجريء المخلص، أثر كبير أيضاً في تحويل الهزيمة إلى نصر، إن الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة أول المعركة، ثم الذين استجابوا لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتجاوزوا مائة، وعندئذ ابتدأ التحول في سير المعركة، وابتدأ نصر الله لعباده المؤمنين، وابتدأ تخاذل أعدائه، ووقوع الوهن في قلوبهم وصفوفهم، وكلما تذكر قائد الدعوة وجنودها أنهم على حق، وأن الله مع المؤمنين الصادقين، ازدادت معنوياتهم قوة، وازداد إقدامهم على الفداء والتضحية.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله، وفي رواية غير ابن هشام أنه قال:

 أنا النبيُّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب

دلالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة وثقته بنصر ربه، وهكذا ينبغي أن يكون القائد دائماً وأبداً في الشدائد، واثقاً من نفسه، ملتجئاً إلى ربه، متأكداً من نصره له وعنايته به، فإن لثقة القائد بهدفه وغايته ورسالته أكبر الأثر في نجاحه والتفاف الناس حوله، ولها أكبر الأثر في تخفيف الشدائد عن نفسه وتحمل آلامها راضياً مطمئناً.

7- وفي موقف أم سليم بنت ملحان مفخرة من مفاخر المرأة المسلمة في صدر الإسلام، فقد كانت في المعركة مع زوجها أبي طلحة وهي حازمة وسطها ببرد لها وهي حامل، ومعها جمل لأبي طلحة وقد خشيت أن يفلت منها، فأدخلت يدها في خزامته (وهي حلقة من شعر تجعل في أنف البعير) مع الخطام، فرآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أم سليم؟ قالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقاتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو يكفي الله يا أم سليم! وكان معها خنجر، فسألها زوجها أبو طلحة عن سر وجوده معها! فقالت: خنجر أخذته، إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به! فأعجب بها أبو طلحة، ولفت نظر الرسول إلى ما تقول.

هكذا كانت المرأة المسلمة، وهكذا ينبغي أن تكون: جريئة تسهم في معارك الدفاع بحضورها بنفسها، حتى إذا احتيج إليها أو دنا منها الأعداء، ردت عدوانه بنفسها كيلا تؤخذ أسيرة مغلوبة، وللمرأة المسلمة في تاريخ الإسلام حين نشوئه صفحات مشرقة من الفداء والبلاء والتضحية والشجاعة، مما يصفع أولئك المتعصبين من المستشرقين وغيرهم من الغربيين الذين زعموا لقومهم أن الإسلام يهين المرأة ويحتقرها، ولا يجعل لها مكانها اللائق في المجتمع في حدود رسالتها الطبيعية، بل تمادى بهم الإفك إلى الادِّعاء بأن الإسلام لا يفسح مجالاً للمرأة في الجنة، فلا تدخلها مهما عملت من خير، وقدَّمت من عبادة وتقوى!!… يتبع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.