…. وقال غيره مثل ذلك، فسر الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك، وقال: سيروا على بركة الله، وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، إما العير، وإما النفير، ثم سار الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وصل أدنى ماء من بدر فنزل به، فقال الحباب بن المنذر: يارسول الله! هذا منزل أنزلكه الله تعالى: لا تتقدمه ولا تتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فأشار عليه الحباب بن المنذر أن يسير إلى مكان آخر هو أصلح وأمكن للمسلمين من قطع ماء بدرعن المشركين، فنهض الرسول ص، فنهض الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى وصلوا إلى المكان الذي أشار به الحباب، فأقاموا فيه، ثم أشار سعد بن معاذ أن يبني للرسول صلى الله عليه وسلم عريشا وراء صفوف المسلمين، فإن أعزهم الله كان ما أحب، وإلا جلس على ركائبه ولحق بمن في المدينة، فقد تخلف عنا أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا لما تخلفوا عنك، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أن يبنى له العريش، ولما التقى الجمعان، أخذ الرسول يسوي صفوف المسلمين، ويحرضهم على القتال، ويرغبهم في الشهادة، وقال: « والذي نفسي بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة» ورجع إلى عريشه ومعه أبو بكر، ويحرسه سعد بن معاذ متوشحا بسيفه، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء، ومن دعائه: «اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة (المؤمنون المحاربون) لا تعبد في الأرض» وأطال في سجوده حتى قال له أبو بكر: حسبك، فإن الله سينجز لك وعدك، ثم حمي القتال، وانتهت المعركة بانتصار المسلمين، وقد قتل من المشركين نحو من السبعين، فيهم أشركهم أبو جهل وبعض زعمائهم، وأسر منهم نحو السبعين، ثم أمر بدفن القتلى جميعا، وعاد إلى المدينة، ثم استشار أصحابه في أمر الأسرى، فأشار عليه عمر بقتلهم، وأشار عليه أبو بكر بفدائهم، فقبل الرسول صلى الله عليه وسلم مشورة أبي بكر، وافتدى المشركون أسراهم بالمال.
وقد نزل في معركة بدر آيات من كتاب الله الكريم، قال الله تعالى في سورة آل عمران: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ، بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ، وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} [آل عمران: 123-127].
كما نزل العتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم على قبوله فداء الأسرى، فقال الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنفال: 67-68].
غزوة أحد:
وكانت يوم السبت لخمس عشرة خلت من شوال في العام الثالث للهجرة، وسببها أن قريشا أرادت أن تثأر ليوم بدر، فما زالت تستعد حتى تجهزت لغزو الرسو ل صلى الله عليه وسلم في المدينة، فخرجت في ثلاثة آلاف مقاتل، ما عدا الأحابيش فيهم سبعمائة دارع ومائتا فارس، ومعهم سبع عشرة امرأة، فيهن هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، وقد قتل أبوها يوم بدر، ثم ساروا حتى وصلوا بطن الوادي من قبل أحد ( وهو جبل مرتفع يقع شمال المدينة على بعد ميلين منها) مقابل المدينة، وكان من رأي الرسول وعدد من الصحابة ألا يخرج المسلمون إليهم، بل يظلون في المدينة، فإن هاجمهم المشركون صدوهم عنها، ولكن بعض شباب المسلمين وبعض المهاجرين والأنصار، وخاصة من لم يحضر منهم معركة بدر ولم يحصل له شرف القتال فيها، تحمسوا للخروج إليهم ومنازلتهم في أماكنهم، فنزل الرسول صلى الله عليه وسلم عند رأيهم، ودخل بيته ولبس لأمته (درعه)، وألقى الترس في ظهره، وأخذ قناته بيده، ثم خرج إلى المسلمين، وهو متقلد سيفه، فندم الذين أشاروا عليه بالخروج إذ كانوا سببا في حمله على خلاف رأيه، وقالوا للرسول: ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت أو اقعد إن شئت، فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «ما كان ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه»، ثم خرج والمسلمون معه في نحو ألف بينهم مائة دارع وفرسان.
ولما تجمع المسلمون للخروج، رأى الرسول جماعة من اليهود يريدون أن يخرجوا مع عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين للخروج مع المسلمين، فقال الرسول: «أو قد أسلموا؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: مروهم فليرجعوا؛ فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين»، وفي منتصف الطريق انخذل عن المسلمين عبد الله بن أبي بن سلول ومعه ثلاثمائة من المنافقين، فبقي عدد المسلمين سبعمائة رجل فحسب، ثم مضى الرسول حتى وصل إلى ساحة أحد، فجعل ظهره للجبل ووجهه للمشركين، وصف الجيش، وجعل على كل فرقة منه قائدا، واختار خمسين من الرماة، على رأسهم عبد الله بن جبير الأنصاري ليحموا ظهر المسلمين من التفاف المشركين وراءهم، وقال لهم: «احموا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، وارشقوهم بالنبل؛ فإن الخيل لا تقوم على النبل، إنا لا نزال غالبين ماثبتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم» وقال لهم في رواية أخرى: «إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم أو ظاهرناهم وهم قتلى، فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم».
ثم ابتدأ القتال، ونصر الله المؤمنين على أعدائهم، فقتلوا منهم عددا، ثم ولوا الأدبار، فانغمس المسلمون في أخذ الغنائم التي وجدوها في معسكر المشركين، ورأى ذلك من وراءهم من الرماة فقالوا: ماذا نفعل وقد نصر الله رسوله؟ ثم فكروا في ترك أمكنتهم لينالهم نصيب من الغنائم، فذكرهم رئيسهم عبد الله بن جبير بوصية الرسول، فأجابوا بأن الحرب قد انتهت، ولا حاجة للبقاء حيث هم، فأبى عبد الله ومعه عشرة آخرون أن يغادروا أمكنتهم، ورأى خالد بن الوليد وكان قائد ميمنة المشركين خلو ظهر المسلمين من الرماة، فكرَّ عليهم من خلفهم، فما شعر المسلمون إلا والسيوف تناوشهم من هنا وهناك، فاضطرب حبلهم، وأشيع أن الرسول قد قتل، ففر بعضهم عائدا إلى المدينة، واستطاع المشركون أن يصلوا إلى الرسول، فأصابته حجارتهم حتى وقع وأغمي عليه، فشج وجهه، وخدشت ركبتاه، وجرحت شفته السفلى، وكسرت الخوذة على رأسه، ودخلت حلقتان من حلقات المِغفر في وجنته، وتكاثر المشركون على الرسول يريدون قتله، فثبت صلى الله عليه وسلم وثبت معه نفر من المؤمنين، منهم: أبو دجانة، تترس على الرسول ليحميه من نبال المشركين، فكان النبل يقع على ظهره، ومنهم سعد بن أبي وقاص رمى يومئذ نحو ألف سهم، ومنهم: نسيبة أم عمارة الأنصارية، تركت سقاء الجرحى، وأخذت تقاتل بالسيف، وترمي بالنبل، دفاعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابها في عنقها، فجرحت جرحا عميقا، وكان معها زوجها وابناها، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: «بارك الله عليكم أهل بيت» فقالت له نسيبة: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: «اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة» فقالت رضي الله عنها بعد ذلك: «ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا» وقد قال صلى الله عليه وسلم في حقها: «ما التفت يمينا وشمالا يوم أحد، إلا ورأيتها تقاتل دوني» وقد جرحت يومئذ اثني عشر جرحا، ما بين طعنة برمح وضربة بسيف.
وقد حاول في ساعة الشدة أن يصل أبي بن خلف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليقتله، وأقسم ألا يرجع عن ذلك، فأخذ عليه السلام حربة ممن كانوا معه، فسددها في نحره، فكانت سبب هلاكه، وهو الوحيد الذي قتله صلى الله عليه وسلم في جميع معاركه الحربية.
ثم استطاع صلى الله عليه وسلم الوقوف والنهوض على أكتاف طلحة بن عبيد الله، فنظر إلى المشركين، فرأى جماعة منهم على ظهر الجبل، فأرسل من ينزلهم قائلا: «لا ينبغي لهم أن يعلونا، اللهم لا قوة لنا إلا بك» وانتهت المعركة، وقال أبو سفيان مظهرا تشفيه والمشركين من هزيمتهم يوم بدر: يوم بيوم بدر.
وممن قتل في هذه المعركة حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومثلت به هند زوج أبي سفيان، واحتزت قلبه ومضغته، فرأت له مرارة ثم لفظته، وقد حزن الرسول صلى الله عليه وسلم لمشهده حزنا عظيما فقال: «لئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم، ولكن الله نهى عن المُثلة بعد ذلك».
وقد بلغ عدد قتلى المسلمين في هذه المعركة نحوا من السبعين، وقتلى المشركين ثلاثة وعشرين.
وقد أنزل الله تعالى في هذه المعركة عدة آيات يضمد بها جراح المؤمنين، وينبههم إلى سبب الهزيمة التي حلت بهم، فيقول في سورة آل عمران: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [ آل عمران: 139-142] ثم يقول بعد آيات: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم (تقتلونهم) بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، إِذْ تُصْعِدُونَ (أي تهربون إلى الجبل صاعدين) وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ (أي فجازاكم غما على غم) لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 152-153].
غزوة بني النضير:
وهم قوم من اليهود يجاورون المدينة، وكانوا حلفاء للخزرج وبينهم وبين المسلمين عهد سلم وتعاون كما قدمنا، ولكن طبيعة الشر والغدر المتأصلة في اليهود أبت إلا أن تحملهم على نقض عهدهم، فبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه في بني النضير وقد استند إلى جدار من بيوتهم، إذ تآمروا على قتله بإلقاء صخرة من ظهر البيت، فعلم صلى الله عليه وسلم بذلك فنهض سريعا كأنه يهم بحاجة، فتوجه إلى المدينة، ولحقه أصحابه ثم أرسل إليهم محمد ابن مسلمة أن اخرجوا من بلدي فلا تساكنوني بها، وقد هممتم بما هممتم به من الغدر، ثم أمهلهم صلى الله عليه وسلم عشرة أيام للخروج، وتجهز بنو النضير للخروج في هذا الإنذار، ولكن عبد الله بن أبيِّ رأس المنافقين أرسل إليهم ينهاهم عن الخروج، ويعدهم بإرسال ألفين من جماعته يدافعون عنهم، فعدلوا عن النزوح، وتحصنوا في حصونهم، وأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك، فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم في أصحابه يحمل لواءه علي بن أبي طالب، فلما رآهم اليهود أخذوا يرمونهم بالنبل والحجارة، ولم يصل إليهم المدد الذي وعدهم به رأس المنافقين، فحاصرهم عليه الصلاة والسلام، فصبروا فاضطر إلى قطع نخيلهم، فقالوا عندئذ: نخرج من بلادك، واشترط عليهم صلى الله عليه وسلم ألا يخرجوا معهم السلاح، ولهم أن يخرجوا معهم من أموالهم ما حملته الإبل، ودماؤهم مصونة لا يسفك منها قطرة، فلما أرادوا الخروج أخذوا كل شيء يستطيعونه، وهدموا بيوتهم كيلا يستفيد منها المسلمون، وساروا، فمنهم من نزل خيبر على بعد مائة ميل من المدينة، ومنهم من نزل في ناحية « جرش» بجنوب الشام، ولم يسلم منهم إلا اثنان.
وقد نزلت في هذه الغزوة سورة (الحشر) ومنها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ، وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:2-3].
غزوة الأحزاب:
وتسمى غزوة (الخندق)، وقد وقعت في شوال من السنة الخامسة للهجرة، وسببها أنه لما تم إجلاء بني النضير، قدم عدد من حلفائهم إلى مكة يدعون قريشا ويحرضونها على قتال الرسول، فأجابت قريش لذلك، ثم ذهب رؤساء اليهود إلى غطفان، فاستجابت لهم بنو فزارة وبنو مرة، وأشجع واتجهوا نحو المدينة، فلما سمع صلى الله عليه وسلم بخروجهم، استشار أصحابه فأشار عليه سلمان بحفر خندق حول المدينة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفره وعمل فيه بنفسه، ولما وصلت قريش ومن معها من الأحزاب راعها ما رأت من أمر الخندق، إذ لا عهد للعرب بمثله، وكانت عدتهم عشرة آلاف، وعدة المسلمين ثلاثة آلاف، وكان حُيي بن أخطب أحد اليهود الذين هيجوا قريشا والأحزاب ضد المسلمين، وقد ذهب إلى كعب بن أسد سيد بني قريظة يطلب إليه نقض عهد السلم بينه وبين المسلمين، وفكر النبي صلى الله عليه وسلم في مصالحة بني قريظة على ثلث ثمار المدينة، ولكن الأنصار رفضوا اعتزازا بدينهم من أن يعطوا الدنية لهؤلاء الخائنين للعهود والمواثيق، وبدأ القتال باقتحام بعض فرسان المشركين للخندق من إحدى نواحيه الضيقة، فناوشهم المسلمون وقاتلوهم، ثم جاء نعيم بن مسعود ابن عامر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنه قد أسلم، وأن قومه لا يعلمون بإسلامه، وأنه صديق لبني قريظة يأتمنونه ويثقون به، وقال للرسول: «مرني بما شئت» فقال له الرسول: «إنما أنت فينا رجل واحد، فخَذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» فاستعمل نعيم دهاءه حتى فرق بين قريش وحلفائها، وبين بني قريظة، وأوقع في نفوس كل من الفريقين الشك في الآخر، وأرسل الله على الأحزاب ريحا شديدة في ليلة شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفئ قدورهم وتمزق خيامهم، فامتلأت نفوس الأحزاب بالرعب ورحلوا في تلك الليلة، فلما أصبح الصباح نظر المسلمون فلم يروا أحدا.
وفي هذه الغزوة أنزل الله تعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 9-11] ، ثم يصف موقف المنافقين وتخذيلهم وانسحابهم من المعركة، ثم يقول في وصف المؤمنين: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا، لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 22-25].
غزوة بني قريظة:
وقد وقعت في السنة الخامسة للهجرة عقب غزوة الأحزاب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رأى ما انطوت عليه نفوس يهود بني قريظة من اللؤم والغدر والتحزب مع قريش وحلفائها، وبعد أن أعلنت له إبان اشتداد معركة الأحزاب أنها نقضت عهدها معه، وكانت وهي تساكن الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة تهم بشر عظيم قد يقضي على المسلمين جميعا لولا انتهاء معركة الأحزاب بمثل ما انتهت إليه، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤدب هؤلاء الخائنين الغادرين، ويطهر منهم المدينة مقر جهاده ودعوته حتى لا تواتيهم الظروف مرة أخرى، فينقضوا على جيرانهم المسلمين ويبيدوهم كما هي طبيعة الغدر اليهودي اللئيم.
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع يوم الخندق ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل وقد عصب رأسه الغبار فقال: وضعتَ السلاح، فوالله ما وضعتُه. قال: فأين؟ قال: ههنا، وأومأ إلى بني قريظة، قالت: فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينادي في الناس بأن لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، ثم خرج فيهم وقد حمل رايته علي رضي الله عنه، وقد اجتمع من المسلمين ثلاثة آلاف، ومن الخيل ست وثلاثون، فلما دنا علي من حصن بني قريظة، سمع منهم مقالة قبيحة في حقه صلى الله عليه وسلم وحق أزواجه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وطلب إليه ألا يدنو من أولئك الأخباث، فأجابه عليه السلام بأنهم إذا رأوه لم يقولوا من ذلك شيئا لما يعلم من أخلاقهم في النفاق والملق، فلما رأوه تلطفوا به كما تنبأ صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ المسلمون في حصارهم خمسا وعشرين ليلة، فلما ضاق بهم الأمر نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم فيهم سعد بن معاذ سيد الأوس، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس، فحكم سعد بأن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن تقسم أموالهم، فنفذ الرسول حكمه، وبذلك قضى على مؤامرات اليهود ودسائسهم وتآمرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته قضاء مبرما في المدينة وما حولها.
وفي هذه الغزوة نزلت آيات من القرآن الكريم تبين غدر اليهود، ونقضهم للعهود، وتخذيلهم لصفوف المسلمين في غزوة الأحزاب: {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ، وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ (إشارة إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم معهم يوم استقر بالمدينة) لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا ، قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 13- 16]. إلى أن يقول: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم (أهل الأحزاب) مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ (حصونهم) وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 26- 27].
غزوة الحديبية:
وقعت في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، وكان من أمرها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل البيت هو وصحابته آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون شيئا، فأمر الناس أن يتجهزوا للخروج إلى مكة معتمرين، لا يريد حربا لقريش ولا قتالا، فخرج معه المهاجرون والأنصار يحدوهم الشوق إلى رؤية بيت الله الحرام بعد أن حرموا من ذلك ست سنوات، وخرج معهم من شاء من الأعراب، وساق أمامه صلى الله عليه وسلم وهو ما يساق إلى البيت الحرام من الإبل والنعم تعظيما للبيت وتكريما، وأحرم بالعمرة من مكان يسمى بذي الحليفة، ليعلم الناس وقريش خاصة أنه لا يريد قتالا، وكان عدد من خرج معه نحوا من ألف وخمسمائة، ولم يخرجوا معهم بسلاح إلا سلاح المسافر في تلك العهود: السيوف في أغمادها، وسار حتى وصل إلى «عسفان» جاء من يقول له: هذه قريش قد سمعت بمسيرك، فخرجوا وقد لبسوا جلود النمور يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا، فقال صلى الله عليه وسلم: “يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب! ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني، كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله حتى يظهره الله، أو تنفرد هذه السالفة”.
فلما وصل الحديبية – وهي مكان قريب من مكة بينها وبين طريق جدة الآن- جاءه بعض رجال من خزاعة يسألونه عن سبب قدومه، فأخبرهم أنه لم يأت إلا ليزور البيت ويعتمر، فرجعوا وقالوا لهم: إنكم تعجلون على محمد، لم يأت لقتال، إنما جاء زائرا لهذا البيت. فقالوا: لا والله لا يدخلها عليهم عنوة أبدا، ولا يتحدث العرب عنا بذلك.
ثم بعثوا عروة بن مسعود الثقفي ليتحدث إلى الرسول بهذا الشأن، وبعد حديث وأخذ ورد بين عروة وبعض الصحابة، عاد إلى قريش وحدثهم عما رأى من حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهيبتهم له، ورغبتهم في الصلح معه، فأبوا ذلك، ثم بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة ليؤكد لهم الغرض من مجيء الرسول وصحابته، وأبطأ عثمان، فأشيع بين المسلمين أنه قد قتل، فقال الرسول عندئذ: لا نبرح حتى نناجز القوم (نقاتلهم) ودعا المسلمين إلى البيعة على الجهاد، والشهادة في سبيل الله، فبايعوه تحت شجرة هناك من أشجار الطلح على عدم الفرار، وأنه إما الصلح، وإما الشهادة، ولما علمت قريش بأمر البيعة، خافوا ورأوا الصلح معه على أن يرجع هذا العام ويعود من قابل فيقيم ثلاثا معه سلاح الراكب: الرماح والسيوف في أغمادها، وأرسلت قريش لذلك سهيل بن عمرو ليتم هذا الصلح، وأخيرا تم هذا الصلح، على ما رغبت قريش، وعلى وضع الحرب بين الفريقين عشر سنين، وأن من أتى من عند محمد إلى مكة لم يردوه، وأن من أتى محمدا من مكة ردوه إليهم، فعز ذلك على المسلمين، وأخذ بعضهم يجادل النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء من شروطها، ومن أشدهم في ذلك عمر، حتى قال رسول الله: «إني عبد الله ولن يضيعني» ثم أمر الرسول أصحابه بالتحلل من العمرة فلم يفعلوا ذلك في موجة من الألم، لما حيل بينهم وبين دخول مكة، ولما شق عليهم من شروط الصلح فبادر عليه السلام بنفسه، فتحلل من العمرة، فتبعه المسلمون جميعا، وقد ظهرت فيما بعد فوائد هذه الشروط التي صعبت على المسلمين ورضي بها الرسول، لبعد نظره ورجحان عقله، وإمداد الوحي له بالسداد في الرأي والعمل.
هذا وقد سمى الله هذه الغزوة فتحا مبينا، حيث قال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ، وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 1-3] ثم تحدث عن مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] ورضي عن أصحاب بيعة الرضوان تحت الشجرة فقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] وتحدث عن رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم التي كانت سببا في غزوة الحديبية، فقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] ولعل هذه إشارة إلى فتح مكة الذي كان ثمرة من ثمار صلح الحديبية، كما سنذكره في الدروس والعظات إن شاء الله، ثم أتبع ذلك بتأكيد غلبة هذا الدين وانتصاره، فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] وصدق الله العظيم.
غزوة خيبر:
وكانت في أواخر المحرم للسنة السابعة من الهجرة.
و(خيبر) واحة كبيرة يسكنها اليهود على مسافة مائة ميل من شمال المدينة جهة الشام.
وسببها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أمن جانب قريش بالصلح الذي تم في الحديبية، قرر تصفية مشكلة التجمعات اليهودية فيما حول المدينة بعد أن صفى اليهود من المدينة نفسها، وقد كان لليهود في خيبر حصون منيعة، وكان فيها نحو من عشرة آلاف مقاتل، وعندهم مقادير كبيرة من السلاح والعتاد، وكانوا أهل مكر وخبث وخداع، فلا بد من تصفية مشكلتهم قبل أن يصبحوا مصدر اضطراب وقلق للمسلمين في عاصمتهم (المدينة) ولذلك أجمع الرسول صلى الله عليه وسلم على الخروج إليهم في أواخر المحرم، فخرج إليهم في ألف وستمائة مقاتل، منهم مائتا فارس، واستنفر من حوله ممن شهد الحديبية، وسار حتى إذا أشرف على خيبر قال لأصحابه: قفوا، ثم عاد فقال: «اللهم رب السماوات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن [حملن]، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، إنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا باسم الله».
ولما وصلوا إليها نزل النبي صلى الله عليه وسلم قريبا من أحد حصون خيبر يسمى (حصن النطاة) وقد جمعوا فيه مقاتلتهم، فأشار الحباب بن المنذر بالتحول، لأنه يعرف أهل النطاة معرفة جيدة، وليس قوم أبعد مدى ولا أعدل رمية منهم، وهم مرتفعون على مواقع المسلمين، فالنبل منهم سريع الانحدار إلى صفوف المسلمين، ثم إنهم قد يباغتون المسلمين في الليل مستترين بأشجار النخيل الكثيرة، فتحول الرسول مع المسلمين إلى موضع آخر وابتدأت المعارك، يفتح المسلمون منها حصنا بعد حصن، إلا الحصنين الأخيرين، فقد رغب أهلها في الصلح على حقن دماء المقاتلة، وترك الذرية والخروج إلى أرض خيبر بذراريهم، وألا يصحب أحد منهم إلا ثوبا واحدا، فصالحهم على ذلك، وعلى أن ذمة الله ورسوله بريئة منهم إن كتموا شيئا، ثم غادروهما فوجد المسلمون فيهما أسلحة كثيرة، وصحائف متعددة من التوراة، فجاء اليهود بعد ذلك يطلبونها، فأمر بردها إليهم، وقد بلغ عدد قتلى اليهود في هذه المعركة ثلاثة وتسعين، واستشهد من المسلمين خمسة عشر.
غزوة مؤتة:
كانت في جمادى الأولى للسنة الثامنة من الهجرة، و (مؤتة) قرية على مشارف الشام، تسمى الآن بـ(الكرك) جنوب شرق البحر الميت، وكان سببها أن الرسول كان قد أرسل الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى أمير بصرى من جهة هرقل، وهو الحارث بن أبي شمر الغساني يدعوه فيه إلى الإسلام – وكان ذلك من جملة كتبه التي بعث بها عليه السلام غلى ملوك العالم وامراء العرب بعد صلح الحديبية- فلما نزل مؤتة أحد الأمراء العرب الغساسنة التابعين لقيصر الروم؛ قال له أين تريد؟ لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم. فأوثقه وضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتد عليه الأمر إذ لم يقتل له رسول غيره، وجهز لهم جيشا من المسلمين عدته ثلاثة آلاف، وأمر عليهم زيد بن حارثة، واوصاهم إن أصيب زيد فليؤمروا جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فليؤمروا عليهم عبد الله بن رواحة، وطلب من زيد أن يأتي مقتل الحارث بن عمير، وأن يدعو من هناك إلى الإسلام، فإن أجابوا وإلا فليستعينوا بالله وليقاتلوهم، وأوصاهم بقوله: «أوصيكم بتقوى الله وبمن معهم من المسلمين خيرا، اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا (الغلول السرقة) ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا كبيرا فانيا، ولا منعزلا بصومعة، ولا تقربوا نخلا ولا تقطعوا شجرا ولا تهدموا بناء» ثم سار الجيش على بركة الله، …يتبع