جاءت الانتخابات وقامت القيامة

الانتخابات
0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

د.محمد منصوري

أن تكون بلدا ديمقراطيا فهذا يعني أنك تخضع لسلطة الشعب، لأن الشعب هو الذي يسوس نفسه بنفسه أو بالأحرى بواسطة ممثليه المنتخبين. والجميل في الأمر هو أن الشعب بهذه الطريقة يمارس سلطة التسيير من خلال اختياره لممثليه وسلطة المحاسبة حين يُقدم على تغيير اختياراته. المبدأ هو نفسه لم يتغير فيه شيء منذ أيام اليونان القديمة. لكن ثمة نقطة محورية تدور في فلكها هذه المنظومة بأكملهاوهي التي تطورت وتغيرت عبر السنين: إنها عملية الانتخاب.

إن نجاح الديمقراطية كنظام للحكم والسياسة يرتكز على جودة العملية الانتخابية ومدى سلامتها ونزاهتها. فهناك فرق جوهري بين اختيارك من بين الأنسب من الناس الذين تعرفهم حق المعرفة لتمثيلك وغيرك في تسيير شؤون البلاد والعباد، وبين أن يقوم شخص ما، في الغالب أنك لا تعرف عنه شيئا، بترشيح نفسه لهذه المهمة. وبالتالي فأنت لا تختار ممثليك بقدر ما تقبل أو ترفض فقط من اختاروا هم أن يمثلوك.

والأغرب من هذا وذاك هو أنك لا تختار شخصا بعينه بل تقوم بالتصويت لصالح أحد الأحزاب المتنافسة أو المتصارعة إن صح التعبير. إذن لو حاولنا تلخيص هذه الأحجية فأنت لا تختار من يمثلك بل تقوم باختيار من اختاره الحزب ليمثله. معادلة من الدرجة الثالثة نتيجتها هو أن لا أحد يمثلك أنت بالتحديد. فهل هذا هو “حكم الشعب” لنفسه أم هو حكم الأحزاب للشعب ؟!

في يومنا هذا، لا يمكننا فصل السياسة عن الأحزاب. وحين نتساءل عن نقائص العملية الديمقراطية فنحن غالبا ما نرد ذلك إلى ضعف الأحزاب السياسية وابتعاد الشباب عن العمل السياسي ونقصد به طبعا الانخراط في الأحزاب. وكأن السياسة الحزبية هي النموذج الأوحد للعمل السياسي ولا يمكن إعطاء أي تصور للديمقراطية في معزل عن الأحزاب. وحتى حين يقرر الشباب الانضمام إلى العمل السياسي الحزبي فهم يشكلون ما يسمى بالشبيبة الحزبية التي يعد وجودها رمزيا، ونادرا ما يكون له دور في مركز صناعة القرار … فللأحزاب شبيبتها وللحكومة شيبها.

ويقصد بالحزب السياسي جماعة من الأفراد داخل المجتمع، تعمل في الإطار القانوني بمختلف الوسائل السياسية لتولي زمام الحكم، كلا أو جزءا، بقصد تنفيذ برنامجها السياسي. وبالتالي يمكن تعريف الحزب السياسي بأنه تنظيم يسعى لبلوغ السلطة وممارستها وفق برنامج الحزب السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وهنا مكمن الخلل: السعي لبلوغ السلطة والإيديولوجية التي يخضع لها البرنامج الحزبي والتي لن ترضي بأي حال من الأحوال جميع أطياف المجتمع.

فالسعي لبلوغ السلطة يطرح أكثر من علامة استفهام. وأولاها هو أن الذي يسعى إلى الحكم هل يفعل ذلك من باب المصلحة العامة ام المصلحة الشخصية؟ فتزكية الإنسان لنفسه في حد ذاتها غرور وأنانية، وتزكية الحزب لشخص ما يتطلب خضوعا وطواعية. وبما أن العملية كلها فيها منافسة شرسة بين الأشخاص والأحزاب كان لا بد من وجود حملة انتخابية محمومة يكون فيها الصراع على أشده وتستعمل فيها كافة الوسائل، المشروعة وغير المشروعة للتأثير على الناخبين واستمالتهم وأحيانا شراء أصواتهم بشكل مباشرأو غير مباشر. كل هذا من أجل الوصول إلى السلطة لخدمة الصالح العام … يا سلام !!

وقد يزيد الطين بلة والمريض علة، تدخل أطراف خفية في تمويل الحملة الانتخابية نظرا للكم الهائل من الأموال التي أصبحت تتطلبها. مما أدى إلى ظهور اللوبيات النافذة التي تتحكم في دواليب صنع القرار من خلال تحكمها في العملية الانتخابية. فأي غبي سيصدق أن من يمول الحملة الانتخابية لشخص ما أو حزب ما هو حريص على المصلحة العامة خصوصا إذا كانت الجهة الممولة لها عمل مدر للربح وبإمكانها أن تستفيد من قرارات الحكومة المستقبلية لزيادة أرباحها.

إن تطور الديمقراطية يحتاج إلى إعادة النظر في العملية الانتخابية من الأساس. والمبدأ بسيط وهو ألا يكون هناك ترشح أو تزكية أو إشهار. هذا النموذج الانتخابي يعتمد مفهوم الوحدات الانتخابية التي تشمل مجتمعا محليا مصغرا يعرف الناس فيه بعضهم البعض ويتشاركون أطوار الحياة اليومية، وبالتالي فهم يعرفون جيدا من يوكلون لتمثيلهم وإبلاغ صوتهم ومطالبهم. سيعقد هؤلاء الوكلاء المنتخبون مؤتمرا مركزيا يقومون فيه بالتشاور حول السياسة العامة للبلاد ورسم خارطة طريق للحكومة المقبلة تحظى بموافقة شاملة وتأييد من الجميع. وبعد ذلك يقومون بانتخاب أعضاء هذه الحكومة وفق نفس المبدأ، أي الانتخاب السري دون ترشح أو إشهار أو تأثير على رأي الناخبين.

هذه الطريقة في الانتخاب وتمثيل المجتمع لتسيير شؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحتاج إلى التجربة لتتطور وتنمو وتصبح أكثر نضجا وواقعية. فمهما كانت الفكرة سامية والغاية نبيلة فإن تطبيقها وتنزيلها على أرض الواقع يحتاج إلى تعلُّم مستمر وبناء للمقدرة والكفاءة وتغير في الثقافة وملاءمة للحاجيات والموارد. لذلك لا جدوى من الخوض في التفاصيل لأنها ستفقد المبدأ ككل قيمته الحقيقية وستجعل الأمر برمته أقرب إلى النظرية منه إلى الواقع.

فلا تسألوا الشباب عن سبب عزوفهم عن السياسة ورفضهم المشاركة في الانتخابات لأنهم فقدوا الثقة في كل سياسي وفي كل الأحزاب الموجودة، بل وفي فكرة السياسة الحزبية نفسها حتى أصبح العزوف هو مرشحهم المفضل. الأمر طبيعي فلم يعد هناك بديل مقنع. ولو طرحت السؤال على الداني والقاصي والصغير والكبير سيجيبك الجميع دون تردد: ” كلشي فحال فحال “. فكم أتمنى أن يُعطى الشباب الفرصة للمشاركة في صنع القرار بعيدا عن الصراعات الحزبية والإيديولوجية. لأن الشباب هم من يحملون دوما مسؤولية البناء والتشييد،وهم قريبون جدا من نبض الشارع وملمون بكل ما هو جديد. والحديث هنا عن شباب لا يقوض أمانتهم واستقامتهم انهماك بعيوب الآخرين، أو تثبط عزيمتهم ما بهم من نقيصة. شباب يدفعهم الوعي بإخفاقات المجتمع إلى العمل من أجل تغييره لا النأي بأنفسهم عنه. شباب يواجهون التحديات الماثلة أمامهم بكل صبر وعزيمة، ويوحدهم هدف مشترك وهو المساهمة في مُقدّرات بلدهم ومُقدّرات البشرية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.