العدل مع غير المسلمين .. حتى يكتمل التقوى

العدل
0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

عبد الله بوصوف

توطئة

تعميق النظر بالتبصر ، وإجالة الفكر في واقع الإسلام والمسلمين بأوربا اليوم، يستدعي الأسى والأسف على ما وصل إليه حال المسلمين من التردي في السلوك، والاختناق في اعتبار دينهم وتشريعاته اعتقادا وتمثلاً، وفي النظر إلى الآخر، والتعامل معه، حتى بدا يظهر وكأن الإسلام يضع نفسه معارضا وخصما وطرف نقيض لكل ما خالف المسلمين في العقيدة، ومسالك التديّن. وهذا لعمري عين الخطإ الذي يلبس الإسلام ثوب دين الحرب والقتال، ودين الفتنة والاقتتال، ويلبس المسلمين لبوس المحاربين في كل الأوطان. وهذا ما لا أصل له في شريعة الإسلام، ولا يقوم عليه دليل من نصوصه الشرعية ولا يعاضده حدثٌ من أحداث سيرة النبوة الشريفة.

من هذا المنظور المستدعي لوجوب التشمير على سواعد إعادة النظر للتبصرة بالمثل العليا، والقيم الأصيلة الفضلى والمبادئ الإسلامية السمحة الصافية النقية، نرتئي إقامة حلقات علمية مقاصدية، نذكر فيها بمعالم روح الإسلام، وبالقيم الإسلامية التي تشكل سننه، وفلسفته والتي وجب على المسلمين بأوربا كما في بلدانهم تمثّلها وتطبيقها، والتي لا تستقيم حياتهم ولا حياة غيرهم إلاّ بها، من مثل: العدل والسماحة والاعتدال والمحبة والخيرية والتعارف والحوار… هذه المجالات القيمية التي تشكل عمق شريعة الإسلام، وتؤسس لمبادئ روح هذا الدين الكريم، وتمثل مبادئ تشريعاته التي بها تمكن في النفوس والأمصار، واستحق الامتداد والاستمرار.

من صور عدل الإسلام مع غير المسلمين

إن المطلع على صفحات تاريخ الإسلام والمسلمين المشرقة، ليقف مذهولا أمام ما حققه هذا الدين من انتشار واسع في وقت قياسي غير مسبوق في تاريخ البشرية لعقيدة من العقائد السماوية وغير السماوية. ولسائل أن سأل عن الأسباب الغائية الكامنة وراء هذه الروح وهذا النفس الغنيّ الثّرِّ في الإسلام والذي مكن له في النفوس والأمصار من غير إكراه للناس على الدخول بالسيف وحملهم على اعتناقه بالقوة والقهر.

ولعل الأسباب الحقيقية وراء قدرة الإسلام على جذب الأرواح والأذان والأبدان إلى فنائه السمح الرحب، تعود لما يكتنزه هذا الدين من روح القيم الإنسانية التي فُطر عليها الخلق، وقامت عليها صروح السماوات والأرض في الملكوت الأعلى. هذه القيم الربانية العظيمة التي تشكل روح هذا الدين، تشكل شفيرته ومفتاح كل تشريعاته الضابطة لعلاقة الخلق بخالقها ولعلاقات الناس فيما بينهم.

والعظيم في هذه الأصول والمبادئ والقيم الإسلامية انها لم تسع لضبط علاقات المسلمين فيما بينهم في حياتهم، وإنما شكلت قواعد ضابطة لعلاقة المسلم بالإنسان باعتباره إنسانا بغض النظر عن ملته وشريعته التي يعتقد فيها. بل والأكثر من ذلك، أن نرى هذه المبادئ والقيم الإسلامية كالعدل مثلا تشكل جهازا مؤطرا، وقالبا تشريعيا يركن إليه، ويتمثّله الرسول الكريم الذي جاء بالرسالة من غير ان يستثني نفسه في الاحتكام إلى قيمة العدل المؤسسة للعلاقات البشرية، فتقد سيرته صلى الله عليه وسلم صورا ناصعة من حياته الكريمة، وقد احتكم فيها لمبدإ العدل وشريعة الإنصاف ليس مع المسلمين فقط بل مع أهل الذمة والشرائع السماوية أيضا. وهذه الصور المشرقة من مواقف الرسول الكريم ومن بعده صحابته الأجلاء، توضح بجلاء سر سحر هذا الدين العظيم، وسر إقبال الناس عليه فرادى وزرافات، وسر الاحترام والإكبار الذي حظي به الإسلام والمسلمون بين شعوب وأمم الأرض الأخرى على مرّ العصور.

ولهذا، نرى الحاجة الواضحة الملحة للتذكير بمثل صور عدل النبي الكريم مع غير المسلمين، وصور عدل الصحابة الكرام مع أهل الذمة وغيرهم، حتى يتبين المسلمون اليوم حقيقة دينهم العادل السمح الكريم، وحقيقة خلود شريعته التي لا تحتاج الى السلاح والحرب حاجتها إلى فقه روح هدا الدين، وحاجة ألمسلمين المعرفة بأسرار فلسفته في تشكيل زوايا النظر إلى الحياة والكون والإنسان، وحاجة هذا الدين إلى السلم والسماحة والمحبة ومخاطبة الإنسان باعتباه إنسان بالتي هي أحسن من غير إكراه. “ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك…”: وهذه أمثلة من باب التمثيل لا الحصر.

حول حقيقة العدل:

العدل شريعة الله في الكون والخلق، وقيمة ربانية عليا. وركيزة قيام السموات والأرض. وأساس الملك. والعدل عماد دين الإسلام، وهو قانون وشرط قيام الاستخلاف في الأرض. وبالعدل تنتظم باقي قيم الشريعة الإسلامية المثلى. فبالعدل تتحقق الطمأنينة في الأرواح والأبدان والبلدان… وبالعدل تتحقق التقوى التي هي مناط الشريعة وعمدتها في تمثّل الحكام وتنزيلها… وبالعدل تتحقق الرحمة والتراحم بين الناس. وبالعدل تشيع المحبة والاحترام والتقدير… وقس على ذلك. كيف لا والله عز وجل يقطع العهد على نفسه جلت قدرته بتحريم الظلم على نفسه ثم على عباده: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا…”.

وما يهمنا بالأساس في هذا المقام، هو استعراض بعض صور العدل مع غير المسلمين. ولهذا ما يحثّ عليه وجوبا في كتاب الله، بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8]. وفي كون العدل مع غير المسلمين، والذين قد يكونوا أعداء لنا، أقرب للتقوى احتمالان:

الأول: أن يكون أقرب إلى كمال التقوى، وذلك لأنَّ كمال التقوى يتطلب أمورًا كثيرة، منها هذا العدل، والأخذ بكلِّ واحد من هذه الأمور يقرب من منطقة التقوى الكاملة.

الثاني: أن يكون أقرب إلى أصل التقوى فعلًا من ترك العدل مع الأعداء، ملاحظين في ذلك مصلحة للإسلام وجماعة المسلمين، وذلك لأنَّه قد يشتبه على ولي الأمر من المسلمين في قضية من القضايا المتعلقة بعدو من أعدائهم، هل التزام سبيل العدل معه أرضى لله؟ أو ظلمه هو أرضى لله باعتباره معاديًا لدين الله؟ وأمام هذا الاشتباه يعطي الله منهج الحل، فيقول تعالى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ” أي مهما لاحظتم أنَّ ظلمه لا يتنافى مع التقوى، فالعدل معه أقرب للتقوى. ولا يخفى أن من ثمرات هذا العدل ترغيب أعداء الإسلام بالدخول فيه، والإيمان بأنَّه هو الدين الحقُّ، وكم من حادثة عدل حكم فيها قاضي المسلمين لغير المسلم على المسلم اتباعًا للحق، فكانت السبب في تحبيبه بالإسلام ثم في إسلامه). ولهذا جاءت سيرة النبي الكريم وسيرة الصحابة زاخرة بصور العدل مع غير المسلمين، يما يجعل صورة الإسلام مشرقة في عالم الإنسانية، لأنها شريعة لم توصِ أهلها فيما بينهم بل توصيهم في من يساكنهم ويعاشرهم ويجاورهم ولو كان من غير أهل ملة الإسلام.

صور من عدل الرسول مع غير المسلم:

منها ما حدث عندما سرق رجل من المسلمين من إحدى قبائل الأنصار من بني أبيرق اسمه «طعمة بن أبيرق»، أو «بشير بن أُبيرق»، فقد سرق درعًا من جارٍ له مسلم يقال له: «قتادة بن النعمان»، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له: «زيد بن السمين»، فالتُمِسَتِ الدرع عند «طعمة» فحلف بالله ما أخذها، فقال أصحاب الدرع: لقد رأينا أثر الدقيق في داخل داره. فلما حلف تركوه، واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي، فوجدوا الدرع عنده، فقال اليهودي: دفعها إليَّ طعمة بن أُبيرق!! فجاء بنو ظفر -وهم قوم طعمة- إلى رسول الله ، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم، فهَمَّ رسول الله أن يعاقب اليهودي، فأنزل الله هذه الآيات من سورة النساء: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 105-112.

لقد اعتقد رسول الله أن السارق هو اليهودي لوجود القرائن ضده، ولكن الوحي نزل بخلاف ذلك؛ فلم يكتم شيئًا -وحاشاه- بل قام وأعلن بوضوح وصراحة أن اليهودي بريء، وأن السارق مسلم!!

إن التبرئة تأتي في حق يهودي اجتمع قومه من اليهود على تكذيب الإسلام، والكيد له، والطعن في رسوله ، وبثِّ الفرقة بين أتباعه.. ومع ذلك، فكل هذه السلبيات والخلفيات لا تبرِّر اتهام يهودي بغير حق.

وهذا الاتهام في حق رجل مسلم من إحدى قبائل الأنصار، وما أدراك من هم الأنصار!! هم الذين آووا ونصروا، وهم كَرِشُ الرسول وعيبته، وهم أهل دار الإسلام، وعلى أكتافهم قامت الدولة الإسلامية، ولكن كل هذا ليس مبررًا لتبرئة سارقٍ منهم، ولو كان على حساب يهودي.

ومن صور عدل الرسول في تعامله مع غير المسلمين أيضا، ما حكم به في اختصام بين رجلين؛ أحدهما من صحابة الرسول والآخر يهودي.. فيأتيان إلى رسول الله ليحكم بينهما، فلا يجد أمامه إلا أن يطبِّق الشرع فيهما دون محاباة ولا تحيُّز، والشرع يُلزم المدَّعِي -وهو الأشعث بن قيس رضي الله عنه- بالبينة أو الدليل، فإن فشل في الإتيان بالدليل فيكفي أن يحلف المدَّعَى عليه -وهو اليهودي- على أنه لم يفعل ما يتَّهمه به المدعِي، فيُصَدَّقُ في ذلك؛ وذلك مصداقًا لقول رسول الله : «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَر، لأنه لم يكن يقيم حكمًا على أحدهم إلا ببينة، مهما كان المُدعِي قريبًا منه.

فقد روى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ». قَالَ الأَشْعَثُ بن قيس: فِيَّ وَاللهِ كَانَ ذَلِكَ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي، فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ : «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟» قُلْتُ: لا. فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ: «احْلِفْ». قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا يَحْلِفَ وَيَذْهَبَ بِمَالِي. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ” سورة آل عمران: 77. إنه لموقف نادر حقًّا!!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.